ما هو اثر المخططات الاقتصادية الصينية الحالية على مستقبل الدولار

صورة النفط والدولار 

كان الدولار الأمريكي مغطى بالكامل بالذهب منذ تبني (نظام برتن وودس) (Bretton Woods System) بعد الحرب العالمية الثانية ، لقد كان هناك خوفاً حقيقياً في القرار الذي اتخذ بعد الحرب العالمية الثانية في الغطاء بنسبة 100٪ للدولار من الذهب لئلا يتكرر نفس السيناريو عندما انهار الدولار الورقي قبل ذلك بحدود قرن ونصف عندما كان يطبع الدولار من دون غطاء، ولكن في عام 1971 الغى الرئيس الامريكي نيكسون الغطاء بالذهب فيما يعرف ب  (Nixon shock) وعوم الدولار بشكل كامل عام 1973، وظل الدولار حتى بعد الغاء الغطاء بالذهب محتفظاً بقوته اعتمادا على قوة الاقتصاد الامريكي.

لقد استطاعت اميركا فرض هيمنتها الاقتصادية والنقدية على العالم بسبب تبني الدولار كعملة اساسية في التبادلات التجارية العالمية، ومع كون الذهب يمثل قيمة حقيقية ولكن من الصعوبة استخدامه في المعاملات التجارية. فعلى سبيل المثال لو ارادت دولة استيراد بضاعة من دولة اخرى ودفع قيمة البضاعة بالذهب فيجب عليها في هذه الحالة نقل كمية من الذهب بواسطة سيارات او طائرات وتوفير حماية كافية وهذا بدوره يستغرق فترة من الزمن وكلف عالية، في حين يمكن إجراء نفس العملية بالدفع بالدولار من خلال إرسال الايعاز إلى بنك الاحتياط الفيدرالي الامريكي (United States Federal Reserve Bank) فيحول الدولار الكترونياً وآنياً من حساب المستورد إلى حساب المصدر، فكامل عملية التحويل المتبعة في البنك الفدرالي فيما يعرف ب (FedWire) بين بلدين من خلال اميركا لا تستغرق اكثر من بضع ثواني  باستخدام نظام (RTGS) الذي دخل العراق أيضاً قبل بضع سنين.

المشكلة في هذه الطريقة في تبادل السلع بالدولار الامريكي هو السيطرة الكاملة للحكومة الامريكية على كافة الحسابات بالدولار الامريكي سواء على مستوى الاشخاص او المؤسسات او الدول، لذلك قام الاتحاد السوفيتي خلال اواسط خمسينات القرن الماضي بنقل كميات كبيرة من الدولار من الولايات المتحدة إلى أوربا من خلال مصارف اوربية ومصارف روسية في أوربا بحيث اصبح هذا الدولار خارج سيطرة وإشراف الحكومة الامريكية لئلا تجمد الحكومة الاميركية احتياطي العملة الروسية بالدولار خلال فترة الحرب الباردة، وأصبحت هذه العملة تعرف باليورودولار(Eurodollar)، نعم قامت الكثير من المصارف والمؤسسات الامريكية بعد ذلك بتحويل الدولار الى اليورودولار إلى أوربا لأسباب ضريبية واسباب أخرى، بل يمكن ان يكون رصيد اليورودولار في اميركا ولكنه غير خاضع لسلطة وتعليمات بنك الاحتياط الفيدرالي الامريكي.

 ولمعرفة قدرة اميركا في استغلال هيمنتها على الدولار نجدها قد قامت بتجميد كامل الاحتياطي الايراني بالدولار الذي كان بشكل طبيعي مودعاً في بنك الاحتياط الفيدرالي الامريكي بعد ازمة الرهائن الأمريكان في السفارة الامريكية في طهران لفترة تجاوزت الخمسة وثلاثون عاماً ولم تفرج عن هذه المبالغ إلا مؤخراً بعد عقد الاتفاق النووي مع إيران.

وجاء الآن دور الصين، صحيح ان الناتج القومي الامريكي (GDP) بحدود 19.5 ترليون دولار يبلغ حوالي ضعف الناتج القومي الصيني الذي هو بحدود 11.8 ترليون دولار ولكن الصادرات الامريكية للعالم تبلغ حوالي نصف (بحدود 0.6) من الصادرات الصينية للعالم، ونمو الاقتصاد الصيني يبلغ أكثر من ثلاثة اضعاف نمو الاقتصاد الاميركي، كما إن مقدار الدين الصيني للولايات المتحدة بلغ أكثر من 1.25 ترليون دولار، وعلى هذا الاساس فمن المتوقع ان يتفوق الاقتصاد الصيني في قوته على الاقتصاد الامريكي بحدود عام 2028.

في نهاية عام 2016 أصبح اليوان (Yuan-RMB) بطلب من الصين جزءً من سلة العملات من احتياطي صندوق النقد الدولي بل أصبح العملة الثانية بعد الدولار.

إن فائض الاحتياطي الصيني يراوح بين حوالي 3.1 – 3.5 ترليون دولار، في حين ان تراكم عجز الخزانة الامريكية في نهاية عام 2017 يبلغ حوالي 19.8 ترليون دولار؛ لقد كان احتياطي الذهب للحكومة الصينية عام 2001 بحدود 400 طن، وبدأت الصين بعدها تشتري الذهب وتستخرج الذهب من مناجمها وتمنع تصدير الذهب ولم تعلن عن احتياطي الذهب لديها الآن ولكن الخبراء الاقتصاديين يقدرونه بحدود 4000 طن.

لقد تفاجأ العالم في 1ايلول 2017 بصدور مقال غير رسمي في اهم وأكبر صحيفة اقتصادية في آسيا وهي صحيفة Nikkei Asian Review اليابانية تذكر فيه ان الصين تنوي شراء النفط في المستقبل باليوان الصيني المدعوم بالذهب. وسواء صح هذا المقال او لم يصح، وسواء كان بالون اختبار، ام غير ذلك، فلم يصدر اي تكذيب من قبل الحكومة الصينية، وكتبت مئات المقالات وأجريت عشرات المقابلات الإعلامية بشأن هذا الامر.

 لقد اوضحت الصين في عدة اجتماعات ومداولات عالمية في المحافل الدولية انها تريد ان تجعل اليوان عملة عالمية مرادفة للدولار الامريكي، وهذا يعني سقوط المعادلة الواحدة فيما يعرف بالبترودولار (Petrodollar) وهو شراء النفط في جميع انحاء العالم بالدولار الامريكي فقط كما تم الاتفاق بين هنري كيسنجر والملك فيصل بن عبد العزيزعام 1973، فالصين أكبر مستورد في العالم للنفط وبالتالي تستطيع فرض شروطها إن ارادت، ومن المتوقع حسب ما طرحته في المحافل الدولية امكانية اتخاذ مثل هذه الخطوة خلال العام القادم اي 2018.

إن التوجه الصيني لفرض عملتها كعملة عالمية ليس ناتجاً من منطلق ابعاد اقتصادية فحسب، بل له ابعاداً سياسية؛ إن اي خلاف سياسي عميق بين الصين والولايات المتحدة يُمكِّن الولايات المتحدة من تجميد الاحتياطي الصيني بالدولار الاميركي؛ فإذا علمنا أن ثلثي الاحتياطي الصيني موجود بالدولار في بنك الاحتياط الفيدرالي الامريكي، فمعنى هذا ان اميركا إن اختلفت اختلافاً كبيراً مع الصين او حصل بينهما اي نزاع عسكري، فإنها قادرة على توجيه ضربة قاصمة للصين بتجميد ثلثي احتياطها المالي؛ لذلك فان الصين من منطلق واقعي لا بد أن تجد طريقاً آخر لحفظ عملتها.

إن المحللين الأمريكان المدافعين عن الدولار يقولون انه مهما كان الاقتصاد الصيني قوياً ولكن ستبقى الثقة العالمية بالدولار لأن السياسة المالية الامريكية أكثر شفافية وأكثر رصانة من السياسة المالية الصينية؛ نعم انهم يقولون ان أصبح الاقتصاد الامريكي أضعف من الاقتصاد الصيني بعد حوالي عشر سنوات فيمكن حينها ان يضعف الدولار ولكنه من المستبعد ان ينهار، كما يدّعون أنه لو أصبح اليوان قوياً فستفقد الصين ميزتها في رخص بضائعها وقدرتها الكبيرة على المنافسة.

ولو راجعنا التأريخ سنجد ان الدولار الاسباني من الفضة النقية كان العملة العالمية الاولى المتداولة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ثم أصبح الباوند الاسترليني العملة المهيمنة على الاقتصاد العالمي من القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الثانية حيث حل محله الدولار، والآن اليوان الصيني في تصاعد ولعله سيأخذ مكان الدولار في المستقبل، وكما انهار الدولار الامريكي عندما كان يطبع من دون غطاء في نهاية القرن الثامن عشر، فلعله سيأتي يوم قد ينهار فيه الدولار وهو لازال يطبع الآن من دون غطاء كما يزعم بعض المحللين الاقتصاديين إذا قابلته عملة مغطاة يمكن ان تنال درجة اعلى من ثقة الناس في المستقبل.

إن كل ما ذكرناه مجرد تحليلات مستقبلية لاقتصاديين عالميين واحتمالات وتوقعات أما المستقبل الحقيقي فإنه يبقى بحكم المجهول، ولكن تبقى جميع الاحتمالات واردة ومتوقعة، ويجب علينا في دول المنطقة ومن ضمنها العراق حيث بعض الدول لديها مئات المليارات من الدولارات مودعة في بنك الاحتياط الفدرالي الامريكي متابعة التطورات الاقتصادية والنقدية العالمية لاتخاذ الخطوات اللازمة لمصلحة بلدانهم في الوقت المناسب.

محمد توفيق علاوي

يمكن الاطلاع على تداول الموضوع اعلاه في بعض وسائل الاعلام العالمية خلال العشرة اسابيع الماضية على الروابط التالية:

https://www.youtube.com/watch?v=xjarEvqIIiI

https://www.youtube.com/watch?v=7Dv73yWsaxA

https://www.youtube.com/watch?v=XU-iy-1Oz4g

https://www.youtube.com/watch?v=cknkeksFPk0

 

 

4 thoughts on “ما هو اثر المخططات الاقتصادية الصينية الحالية على مستقبل الدولار

  1. شكرا أستاذ محمد علاوي على هذا الموضوع الاستراتيجي الشيق.
    عندما اطلقنا مشروع الريادة العراقية “سفينة نوح” بهدف خلق فرص عمل جديدة وباعداد ضخمة للشباب العراقي، كنا نتصور انه سيكون من السهل اجتذاب تمويل للمشاريع الصغيرة والناشئة التي ستولد على متن السفينة خصوصا ونحن في بلد نفطي. بعد تجربة 3 شهور اصبح لدينا قناعة بوجوب انشاء صندوق تمويل جماعي (Crowd Funding) خاص لمشاريع السفينة. لذا قمت خلال الثلاث أسابيع الماضية بالاشتراك بمؤتمرين دولية في البحرين وامريكا مخصصة لموضوع تمويل المشاريع الريادية. وخلال حضوري بهذين المؤتمرين أكتشفت موضوعين ذات علاقة مباشرة بما تفضلت به في مقالتك الجديدة:
    1) World Entrepreneurs Investment Forum – 2017 البحرين
    وقد كان المؤتمر برعاية كل من منظمة الأمم المتحدة [التنمية الصناعية] ومبادرة طريق الحرير الصينية. وقد حضر المؤتمر من الصين ما لايقل عن 60 مندوب من موظفين حكوميين واكاديميين ورجال اعمال. وشرحوا لنا برنامجي طريق الحرير ومايسمى مشروع حزام-واحد-طريق-واحد [One Belt One Road]. وعلمت ان المشروعين يغطيان 63 دولة بضمنها العراق وان الصين تقوم بتمويل مشاريع ريادة وبنية تحتية (خصوصا موانيء بحرية!) بهذه الدول. وقد تعجبت لعدم وجود أي عراقي غيري في المؤتمر. فمنذ سنين ونحن نسمع عن بطء العمل بمشروع الفاو الكبير بسبب شحة التمويل وها هي الصين تمول مشاريع موانيء وخطوط سكك حديد بعدة دول لتختصر الطريق بين الصين وأوروبا. فهل هذا اغفال بمصالح العراق ام اننا حاولنا وفشلنا بالحصول على دعم صيني؟ وبكل الأحوال نخطئ بعدم مبالاتنا بما يحدث في الاقتصاد العالمي من تحولات باتجاه الدخول القوي للصين… ويسعدني القول انني عملت بضعة علاقات مع المسؤولين الصينيين الذين ابدوا اهتمام بمبادرة سفينة نوح من باب دعم المشاريع العراقية المنتجة والاختراعات.
    2) World Funding Summit – 2017 لوس انجيليس
    وهذا المؤتمر كان متخصص بالتمويل الجماعي [Crowd Funding] للمشاريع الريادية. وهنا اكتشفت ان الشغل الشاغل للاوساط المالية هو انتشار العملة الرقمية (Cryptocurrency) والتي تصدرت معظم النقاشات وافهم ان دول مثل سويسرا وسنغافورة وقبرص وجبل طارق قد وفرت الغطاء القانوني لتداولها وان الولايات المتحدة ستصدر قوانين في 2018 لتنظيم تداولها. وان هناك تكنولوجيا مرادفة تسمى [Blockchain] وحسب الويكيبيديا سميت عربيا بـ “سلسلة الكتل”. وبالادق تعريفا هي العقود الذكية. وافهم ان هذه التقنية تهدد الحاجة لوجود البنوك كوسيط بين الأطراف عند عمل المعاملات التجارية، بل وتكلم البعض عن عدم الحاجة للنقود الورقية. وبما اني لست خبير بالامور المالية لا اعرف مدى علاقة هذه المواضيع بالدولار واليوان. ويبدو ان الحكومة الامريكية قلقة من هذه التقنيات وان كل من الصين وروسيا داخلة بقوة بهذا المجال. وياريت أستاذ محمد تدرس هذه المواضيع وتشرح لنا تأثيرها على الاقتصاد العالمي والعراقي. ولا اخفيك سرا ان فكرة انتفاء الحاجة الى البنوك العراقية تملأني تفاؤلا لانها مجتمعة فشلت بالمساعدة على تحريك عجلة الاقتصاد العراقي ولم اسمع باي مشروع ريادي حقيقي ساهم بنك عراقي وبضمنها المركزي في تمويله وذلك لشروطهم التعجيزية ونسب الفوائد المضحكة (المبكية) التي يفرضوها.
    رابط مبادرة سفينة نوح – http://noah-ark.org/

  2. السلام عليكم ممكن توضيح عن معنى ( يطبع دون غطاء ) وشكرا جزيلا على هذا الموضوع

    • شكراً آخي العزيز، تاريخياً العملة كانت ذهباً وفضة، ثم تواجد هناك صرافون يخزنون لديهم الذهب والفضة في قاصات محكمة ويقوموا باعطاء شهادة
      او بالاحرى سندات ورقية تثبت كمية الذهب الموجودة لدى الشخص ؛ ثم جاءت مرحلة أن الناس بدؤا يتعاملون بهذه السندات التي تثبت وجود الذهب وتنتقل من شخص إلى آخر حيث يصبح الذهب في القاصة ملك للشخص حامل السند، ويستطيع الشخص حامل السند ان يشتري اي بضاعة بهذا السند، هذه السندات بعد فترة اصبحت هي العملة الورقية، فالعملة الورقية اول ظهورها كان يوجد مقابلها ذهباً محفوضاً في قاصات ومستودعات، ثم نسى الناس الذهب واصبحوا يتعاملون مع العملة الورقية التي تعبر عن وجود ذهب قبالها، وهذا يسمى ان العملة مغطاة بالذهب ، ولكن بعد فترة بدأت تطبع العملة من دون وجود ذهب قبالها وهذا يعرف بأن العملة غير مغطاة، أأمل ان يكون هذا الشرح وافياً، مع وافر تحياتي

  3. تحية تقدير للأستاذ محمد توفيق علاوي…للتصحيح درسنا في كلية الإداره والإقتصاد للدكتور أوسكار لانكه في كتابه الأقتصاد السياسى أن قاعدة معادلة إصدار العمله مقابل الذهب قد ألغيت عند الأزمه الأقتصاديه العالميه ١٩٢٩_١٩٣٣ ولذلك تحتفظ الذاكره العراقيه بالإمتنان لوزير الماليه الأول المرحوم ساسون حسقيل إصراره عند توقيع الإتفاقيه مع شركة نفط العراق عام ١٩٢٧ على الجنيه الذهبي وندم البريطانيين على ذلك بعد سنين قليله…وللتصحيح أيضا الصين أقرصت امريكا بحدود ٣ ترليون دولار من أصل عجزها البالغ أكثر من ١٩ ترليون دولار..مع كامل الأعجاب بشخصكم الكريم

اترك رد